سجلت كتب تاريخ الدولة العلوية التي صنفها مؤرخوها أحداثا كثيرة، تترجم سياسة السلاطين العلويين تجاه الشعب المغربي تصوراً وتطبيقاً، لا فرق في ذلك لديهم بين عامة الناس وخاصتهم من العلماء والفقهاء، مما ينسف زيف ادعاء الشرعية الدينية التي بنى عليها العلويون دولتهم.
ومن النماذج الواضحة على هذه السياسة، الجدل الذي أثير عقب عزم السلطان العلوي إسماعيل على إنشاء “ديوان الحراطين” في العقود الأولى من القرن الثاني عشر الهجري ( 1120ه)، والحراطين هم فئة من الشعب ذوي البشرة السمراء ممن كانوا مستعبدين واكتسبوا حريتهم بعد ذلك، فأراد السلطان إسماعليل العلوي، استصدار أمر بإعادتهم إلى سابق عهدهم من العبودية لتكوين جيش قوي يُحكم به سيطرته على البلاد، ولإضفاء الشرعية الدينية على أمره هذا أراد استصدار فتوى من العلماء تسوغ إنشاء ” ديوان الحراطين”.
ولئن كان هناك من العلماء من جاروا السلطان في أمره رغباً أو رهباً، فإن ثلة من الفقهاء أبت الانسياق معه، وكان موقفهم بين رافض بأسلوب لبق لا يخلو من حذر وحيطة، كقول الفقيه محمد بن عبد القادر الفاسي: ” الأصل في الناس هو الحرية”، وبين معارض منتقد بصراحة شديدة مثل قاضي فاس الشيخ العربي بردلة الذي اتهم الحكام “باسترقاق المسلمين الأحرار”. فما كان من السلطان إلا أن عزله من منصبه وانتقص من كفاءته، ثم اتهم علماء فاس بالتقصير وقلة العلم والتهاون في التحصيل.
وبين رفض مطلق لمجاراة أمر السلطان، وهي شجاعة نادرة سجلتها كتب التاريخ للفقيه العلامة عبد السلام بن حمدون جسوس الذي امتنع عن الموافقة على ديوان الحراطين الذي أصدره عليلش المراكشي للسلطان، وحقد عَلَيْهِ السُّلْطَان فاستصفى عَامَّة أَمْوَاله وأجرى عَلَيْهِ أَنْوَاع الْعَذَاب، وبيعت دوره وأصوله وَكتبه وَجَمِيع مَا يملك هُوَ وَأَوْلَاده ونساؤه، ثمَّ صَار يُطَاف بِهِ فِي الْأَسْوَاق وينادى عَلَيْهِ: من يفْدي هَذَا الْأَسير؟ وَالنَّاس ترمي عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ والحلى وَغير ذَلِك من النفائس أَيَّامًا كَثِيرَة، فَيذْهب الموكلون بِهِ بِمَا يرْمى عَلَيْهِ حَيْثُ ذَهَبُوا بأمواله، وَبَقِي على ذَلِك قَرِيبا من سنة فَكَانَ فِي ذَلِك محنة عَظِيمَة لَهُ ولعامة الْمُسلمين وخاصتهم وَلما دنا وَقت شَهَادَته رَحمَه الله وَقد أيس من نَفسه كتب بِخَطِّهِ رقْعَة وأذاعها فِي النَّاس يَقُول فِيهَا مَا نَصه:
” الْحَمد لله يشْهد الْوَاضِع اسْمه عقبه على نَفسه وَيشْهد الله تَعَالَى وَمَلَائِكَته وَجَمِيع خلقه أَنِّي مَا امْتنعت من الْمُوَافقَة على تمْلِيك من ملك من العبيد إِلَّا لِأَنِّي لم أجد لَهُ وَجها وَلَا مسلكا وَلَا رخصَة فِي الشَّرْع وَأَنِّي إِن وَافَقت عَلَيْهِ طَوْعًا أَو كرها فقد خُنْت الله وَرَسُوله وَالشَّرْع وَخفت من الخلود فِي النَّار بِسَبَبِهِ وَأَيْضًا فَإِنِّي نظرت فِي أَخْبَار الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين حِين أكْرهُوا على مَا لم يظْهر لَهُم وَجهه فِي الشَّرْع فرأيتهم مَا آثروا أَمْوَالهم وَلَا أبدانهم على دينهم خوفًا مِنْهُم على تَغْيِير الشَّرْع واغترار الْخلق بهم وَمن ظن بِي غير ذَلِك وافترى على مَا لم أَقَله وَمَا لم أَفعلهُ فَالله الْموعد بيني وَبَينه وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَالسَّلَام وَكتب عبد السَّلَام بن حمدون جسوس غفر الله ذَنبه وَستر فِي الدَّاريْنِ عَيبه صَبِيحَة يَوْم الثُّلَاثَاء الثَّالِث وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة وَألف”.
ثمَّ بعد ذَلِك بيومين أَمر أَبُو عَليّ الروسي بقتْله فَقتل رَحمَه الله خنقا بعد أَن تَوَضَّأ وَصلى مَا شَاءَ الله، ودعا قرب السحر من لَيْلَة الْخَمِيس الْخَامِس وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي من السّنة الْمَذْكُورَة، وَدفن لَيْلًا على يَد الْقَائِد أبي عَليّ الروسي، انْتهى مَا وَجَدْنَاهُ مُقَيّدا (الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى ج 7\ص94).
د. حسن بكير